الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.تفسير الآية رقم (269): قوله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)}..مناسبة الآية لما قبلها: .قال البقاعي: ولما انقضى الكلام في الإنفاق والمال المنفق على هذا الأسلوب الحكيم تصريحًا وتلويحًا وختم ذلك بهاتين الصفتين وتضمن ذلك مع التصريح بأنه عليم أنه حكيم أتبع ذلك الوصف بأن من سعته وعلمه وحكمته أنه يهب من صفاته ما يشاء لمن يشاء بأن يؤتيه الحكمة فيوقفه على علم ما خفي من هذه الأمثال المتقنة والأقوال الحسنة تصريحًا وتلويحًا ويوفقه للعمل بذلك إنشاء وتصحيحًا فقال تعالى منبهًا على ترجيح العمل بأمر الرحمن وقبول وعده بأنه على مقتضى العقل والحكمة وأن أمر الشيطان ووعده على وفق الهوى والشهوة:- وقال الحرالي: ولما أبدى سبحانه وتعالى أمر الآخرة وأظهر ما فيها وبين أمر الدنيا من الترتيب والتسبيب ورجع بعضها على بعض عودًا على بدء أنبأ تعالى أن ذلك من حكمته وأنهى الحكمة لما فيها من استيفاء حكمة الدارين فليس الحكيم من علم أمر الدنيا بل من علم أمر ما بين الدنيا والآخرة فداوى أدواء الدنيا بدواء الآخرة وداوى النفس بدواء الدارين وضم جوامعها في تيسير الكلم كما ضمّها لمن اصطفاه {ذلك مما أوحى إليك ربّك من الحكمة} [النحل: 39] فقال سبحانه وتعالى: {يؤتي الحكمة} انتهى.وفي ترتيبها على واسع عليم بعد غني حميد بعد عزيز حكيم التحذير من التعريض لإنفاق ما يرده لعزته وغناه وسعته ويذم عليه لعلمه لرداءته أو فساد في نيته وإن خفي فإن ذلك خارج عن منهاج الحكمة منا ومقتضى الحكمة منه سبحانه وتعالى كما وقع لقابيل إذ قرب رديئًا كما هو مشهور في قصته، ولعله لوح إليه بالتذكر في ختام هذه الآية ثم بقوله: {وما للظالمين من أنصار} فصار كأنه قال سبحانه وتعالى: واعلم أن الله عزيز حكيم يؤتي الحكمة وهي العلم بالأشياء على ما هي عليه المزين بالعمل والعمل المتقن بالعلم {من يشاء} من عباده، ثم مدح من حلاه بها فقال مشيرًا ببناء الفعل للمفعول إلى أنها مقصودة في نفسها: {ومن يؤت الحكمة} أي التي هي صفة من صفاته، وأشار بالتعريف إلى كمالها بحسب ما تحتمله قوى العبيد، والحكمة قوة تجمع أمرين: العلم المطابق وفعل العدل وهو العمل على وفق العلم.قال الأصبهاني: والقرآن مملوء من الآيات الدالة على أن كمال الإنسان ليس إلا هاتين القوتين {فقد أوتي خيرًا كثيرًا} قال الحرالي ما معناه: إنه نكرة لما في الحكمة من التسبب الذي فيه كلفة ولو يسرت فكان الخير الكثير المعرف في الكلمة لما فيها من اليسر والحياطة والإنالة الذي لا ينال منه منال بسبب وإنما هو فضله يؤتيه من يشاء فيصير سبحانه وتعالى سمعه وبصره- إلى آخره.ولما كان التقدير: فإن ذلك الذي أوتي الحكمة يصير ذا لبّ فيتأهل لأن يتذكر بما يلقيه الله سبحانه وتعالى من كلمته ما بثّ في الأنفس والآفاق من حكمته وصل به قوله: {وما يذكر} أي بكلام الله سبحانه وتعالى حكمه {إلا أولوا الألباب} أي أصحاب العقول الصافية عن دواعي الهوى المنبعثة من التوهمات الحاصلة عن الوسوسة فهم يترقون بالتذكر بأنهم لا حول لهم عن المسببات إلى أسبابها إلى أن يصلوا إلى مسببها فيعرفوه حق معرفته.وقال الحرالي: الذين لهم لب العقل الذي ينال لب الحس كأن الدنيا قشر تنال بظاهر العقل، والآخرة لب تنال بلب العقل ظاهرًا لظاهر وباطنًا لباطن، من تذكر ابتداء من الابتداءات السابقة ورد عليه فضل الله منه، من رجع من حسه إلى نفسه تنشأت له أوصاف الفضائل النفسانية وترقى عما في محسوسه من المهاوي الشهوانية، ومن تخلص من نفسه إلى روحه تحسس بالوصلة الرحمانية والمحبة الربانية، كذلك من ترقى من روحه إلى أمره تحقق بالإحاطة الوحدانية، ومن استبطن من أمره إلى سره اجتمع إلى الأولية الفردانية؛ فهذا الترتيب من كمالات هذه الحكمة المؤتاة المنزلة بالوحي في هذا الكتاب الجامع لنبأ ما سبق وخبر ما لحق وباطن ما ظهر أنهى تعالى إلى ذكرها أعمال الخلق وخصوصًا في الجود بالموجود كما أنهى إقامة مبنى الدين بظهور وجوده، فأنهى تنزيل أمره بظهور وجوده وأنهى استخلاف عباده بالانتهاء إلى مدد جوده، فكان أعلى الحكمة الجود بالموجود فبذلك- والله سبحانه وتعالى أعلم- اتصل ذكر آية الحكمة بالإنفاق نظمًا وبآية الكرسي مناظرة- انتهى. اهـ..قال ابن عاشور: قوله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} هذه الجملة اعتراض وتذييل لما تضمنته آيات الإنفاق من المواعظ والآدَاب وتلقين الأخلاق الكريمة، مِما يكسب العاملين به رجاحة العقل واستقامة العمل.فالمقصود التنبيه إلى نفاسة ما وعظهم الله به، وتنبيههم إلى أنّهم قد أصبحوا به حكماء بعد أن كانوا في جاهلية جهلاء.فالمعنى: هذا من الحكمة التي آتاكم الله، فهو يؤتى الحكمة من يشاء، وهذا كقوله: {وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به} [البقرة: 231]. اهـ..قال الفخر: اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية المتقدمة أن الشيطان يعد بالفقر ويأمر بالفحشاء، وأن الرحمن يعد بالمغفرة والفضل نبّه على أن الأمر الذي لأجله وجب ترجيح وعد الرحمن على وعد الشيطان هو أن وعد الرحمن ترجحه الحكمة والعقل، ووعد الشيطان ترجحه الشهوة والنفس من حيث إنهما يأمران بتحصيل اللذة الحاضرة واتباع أحكام الخيال والوهم، ولا شك أن حكم الحكمة والعقل هو الحكم الصادق المبرأ عن الزيغ والخلل، وحكم الحس والشهوة والنفس توقع الإنسان في البلاء والمحنة، فكان حكم الحكمة والعقل أولى بالقبول، فهذا هو الإشارة إلى وجه النظم. اهـ..من أقوال المفسرين: .قال أبو حيان: الحكمة: القرآن، قاله ابن مسعود، ومجاهد، والضحاك، ومقاتل في آخرين.وقال ابن عباس فيما رواه عنه علي بن طلحة: معرفة ناسخ القرآن ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومقدّمه ومؤخره.وقال، فيما رواه عنه أبو صالح: النبوّة، وقاله السدي.وقال إبراهيم، وأبو العالية، وقتادة: الفهم في القرآن.وقال مجاهد فيما رواه عنه ليث: العلم والفقه؛ وقال فيما رواه عنه ابن نجيح: الإصابة في القول والفعل، وقاله مجاهد.وقال الحسن: الورع في دين الله، وقال الربيع بن أنس: الخشية، وقال ابن زيد، وأبوه زيد بن أسلم: العقل في أمر الله.وقال شريك: الفهم.وقال ابن قتيبة: العلم والعمل، لا يسمى حكيمًا حتى يجمعهما.وقال مجاهد أيضًا: الكتابة.وقال ابن المقفع: ما يشهد العقل بصحته، وقال القشيري، وقال فيما روى عنه ابن القاسم: التفكر في أمر الله والاتباع له، وقال أيضًا: طاعة الله والفقه والدين والعمل به.وقال عطاء: المغفرة.وقال أبو عثمان: نور يفرق به بين الوسواس والمقام.ووجدت في نسخة: والإلهام بدل المقام.وقال القاسم بن محمد: أن يحكم عليك خاطر الحق دون شهوتك.وقال بندار بن الحسين: سرعة الجواب مع إصابة الصواب.وقال المفضل: الردّ إلى الصواب.وقال الكتاني: ما تسكن إليه الأرواح.وقيل إشارة بلا علة، وقيل: إشهاد الحق على جميع الأحوال.وقيل: صلاح الدين وإصلاح الدنيا.وقيل: العلم اللدني.وقيل: تجريد السر لورود الإلهام.وقيل: التفكر في الله تعالى، والاتباع له.وقيل: مجموع ما تقدّم ذكره: فهذه تسع وعشرون مقالة لأهل العلم في تفسير الحكمة.قال ابن عطية، وقد ذكر جملة من الأقوال في تفسير الحكمة ما نصه: وهذه الأقوال كلها، ما عدا قول السدي، قريب بعضها من بعض، لأن الحكمة مصدر من الإحكام وهو الإتقان في عمل أو قول، وكتاب الله حكمة، وسنة نبيه حكمة، وكل ما ذكر فهو جزء من الحكمة التي هي الجنس. انتهى كلامه.وقد تقدّم تفسير الحكمة في قوله: {ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم} فكان يغني عن إعادة تفسيرها هنا، إلاَّ أنه ذكرت هنا أقاويل لم يذكرها المفسرون هناك، فلذلك فسرت هنا. اهـ..قال الخازن في المراد بالحكمة: وقال الضحاك: القرآن والفهم فيه وإنما قال: ذلك لتضمن القرآن الحكمة وقال في القرآن: مائة وتسع آيات ناسخه ومنسوخه وألف آية حلال وحرام لا يسع المؤمنين تركهن حتى يعلمونهن ولا يكونوا كأهل النهروان يعني الخوارج تأولوا آيات من القرآن في أهل القبلة وإنما نزلت في أهل الكتاب فجهلوا علمها فسفكوا بها الدماء، وانتهبوا الأموال وشهدوا على أهل السنة بالضلالة فعليكم بعلم القرآن فإنه من علم فيما نزل لم يختلف في شيء منه، وقيل: هي القرآن والعلم والفقه وقيل هي الإصابة في القول والفعل، وحاصل هذه الأقوال إلى شيئين: العلم والإصابة فيه، ومعرفة الأشياء بذواتها وأصل الحكمة المنع ومنه حكمه الدابة لأنها تمنعها قال الشاعر:أي امنعوا سفهاءكم، وقال السدي: الحكمة النبوة لأن النبي يحكم بين الناس فهو حاكم. اهـ. .قال ابن كثير: والصحيح أن الحكمة- كما قاله الجمهور- لا تختص بالنبوة، بل هي أعم منها، وأعلاها النبوة، والرسالة أخص، ولكن لأتباع الأنبياء حظ من الخير على سبيل التبَع، كما جاء في بعض الأحاديث: من حفظ القرآن فقد أدْرِجَت النبوة بين كتفيه غير أنه لا يوحى إليه. اهـ..قال القرطبي: أصل الحكمة ما يمتنع به من السّفَه؛ فقيل للعلم حكمة؛ لأنه يُمتنع به، وبه يعلم الإمتناع من السّفه وهو كل فعل قبيح، وكذا القرآن والعقل والفهم.وفي البخاريّ: «من يُرِد الله به خيرًا يفقّهه في الدين» وقال هنا: «ومَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا» وكرر ذِكر الحِكمة ولم يضمرها اعتناءً بها، وتنبيهًا على شرفها وفضلها حسب ما تقدّم بيانه عند قوله تعالى: {فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ قَوْلًا} [البقرة: 59].وذكر الدّارميّ أبو محمد في مسنده: حدّثنا مروان بن محمد حدّثنا رِفْدة الغسّانيّ قال أخبرنا ثابت بن عجلان الأنصاريّ قال: كان يقال: إن الله ليريد العذاب بأهل الأرض فإذا سمع تعليم المعلّم الصبيان الحكمة صرف ذلك عنهم.قال مروان: يعني بالحكمة القرآن. اهـ.
|